ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان

قالها يسوع يومًا: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، قالها وخلّا العالم بعده في جدل لا ينتهي بين الحبّ والرّغيف.

فبين الشّبع والحياة بون مخيف، لأنّ الحياة ليست رغيفًا، وما شبع الأمعاء إلّا تسكين لآلام جراح الحياة، لا شفاء لها، إذ ليس بغير الحبّ يحيا الإنسان.

كان رغيف أمّي قرويًّا محروق الحوافّ، تفوح من بعضه بقايا مازوت خالطته بنشارة الخشب، كي تذكيَ بها نار صاجها، غير أنّنا كنّا نقتاته على طبق قشّ من صنع كفّيها.

طرّزت ذلك الطّبق، ببقايا ملابسها التّالفة، ورسمت في وسطته زهورًا، وفراشات مشوّهة الشّكل، غير أنّها كانت تطير كلّما تحلّقنا حوله.

كان رغيفًا معجونًا بابتسامات أمّي وصفاء قلبها الّذي كان يصنّفنا أبناءها، لا أفواهًا جائعةً وكان طبقها بعض أكفّها الّتي لم تكن تملك الكثير، لكنّها لم تكن تبخل.

كنّا نشبع من بَسْمَلَتِها قبل الطّعام، كنّا نشبع لمجرد سماعها تقول: “كلوا يا روحي!” كنا نتناول وجبات حبّها، لا جهدها.

ما عيّرتنا يومًا برغيفها، ولا توعّدتنا يوما بتعبها، ولا منّنتنا بشبابها وجسدها، الّذي مزّقته على طريق الأمومة لأجلنا نحن التّسعة، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، لكنّه يحيا بالحب وحده.

تناولت اليوم صباحًا ربع رغيف ناشف من الثّلاجة، للففته كما كانت تفعل لنا، وجلست ألتهمه، وأراها تخلط روحها بمؤونة بيتنا الطّيني، وهي تصبر نفسه على ضيق حالنا مردّدة: “البركة مش وفرة أكل، البركة قدرة على الحبّ” بكيت، وبكيت، وبكيت، لأنّ تلك البركة لا زالت تتنامى فينا.

لم تغادر أمّي.. ولم ييبس رغيفُها في لَكَنِ بيتنا.

وقد ظلّت في بيتنا وحياتنا يسوعنا البسيط الأمّيّ الطّاهر الذي صلب عمره على خشب خدمة أبنائها ومحبّتهم بكفّ مليئة بما جنته من حقول الخلق، وبكف فارغة تمسح على رؤوسنا عطفًا وحبًا، ظلّت أمّي، وظلت نصوصها الّتي أكتبها ساعةَ تشاء هي، لا ساعةَ أشاء أنا.

وها أنا أحيا بقول الفادي: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”

ولولا أن صيّرتني أمّي إنسانًا، لما عرفت الشّبع بكلّ أرغفة الأرض، فلكِ كلّ إنساني وفاءً وصلاةً لكفّيك الّتي خبزت حبّ العمر وأطعمتنيه، أحبّك.

Exit mobile version