“بدنا نقبركم”.. عن شهادات الناجين وقصص المفقودين!

نسرين مرعب

“بدنا نقبركم”، هي العبارة التي توحّدت في قصص الناجين، لم يكن حادثاً، لم يكن صدفة، لا هواء ولا عاصفة ولا موجاً. هناك من أراد لهؤلاء القبور، والسبب أنّهم أرادوا الحياة!

حتى في الهروب من “الجحيم”، كان هناك من يقف بالمرصاد، وكأنّ الموت قدر في هذه الحدود، والهروب منه “محال”!

“ما عم يخلونا نطلع باسبور”، صرخة أطلقها أحد الناجين، فهو لم يبحث عن الهجرة غير الشرعية، هذا القارب لم يكن خياره الأوّل، ولكن الدولة ببساطة لم تترك له أفقاً، لم تمنحه جواز السفر بل شدّدت الإجراءات حتى أصبح الحصول عليه حلماً.

“كان بدي لولادي مستقبل أحلى”، صرخة ثانية، لناجٍ ثانٍ، ولكنّه ناجٍ دون أطفال، بعدما ابتلع البحر أبناءه الصغار فضاعت أبوته في وطن نضيع جميعنا في جحود من يرسمون سياساته وقرارته!

“شفت بيي وأمي كيف غرقوا”، صرخة ثالثة، لطفل لم يتجاوز عمره الـ10 أعوام، يصف رحلة الموت، فيسرد ببراءة ممزوجة بالحزن كيف ودّع عائلته للمرة الأخيرة، ليبقى هو وحيداً دون أيّ سند!

هؤلاء الناجين فماذا عن المفقودين، فماذا عن الشهداء؟

تتأمل في الصور، تجد الشابة – الدكتورة التي يعرفها أبناء المنطقة جيداً من خلال عملها في إحدى الصيدليات لأعوام.

هذه الشابة التي كانت دائماً تستقبل الجميع بابتسامتها الهادئة، ولا تبخل عليهم في المشورة، لماذا قد تفكّر في ركوب قارب الموت، لولا أنّها أصبحت قاب قوسين من الموت في هذا الوطن.

وتجد أيضاً صورة العريس، الذي أعلن خطوبته منذ أيام، وشدّ رحاله بحثاً عن مستقبل.. فخانه المستقبل!

ووسط الصور، أجد تلك الصور التي تخصني تؤلمني..

أجد ابنتي عمي، وأطفالهما الثلاثة، الأولى شهيدة. أما الثانية والأطفال فما زالوا في عداد المفقودين، ونحن نتصبّر بآمال هي الأخرى كادت تتبخر!

أفكّر في الساعات الأخيرة لهما. فأنا أعرفهما، أعرف شغفهما للحياة وصوتهما المبتسم. وأسال في أيّ لحظة “سكت” الصوت؟ كم قاومتا؟ وأين كان الأطفال في تلك الساعة السوداء!

وسط كلّ هذا، ينسى الجميع الجلاد. وبدل التحقيق والمحاسبة، نصنع محكمة للضحايا، ونبدأ في نسج التبريرات، فمن تناسى جريمة المرفأ والتليل، فمن تناسى جرائم هذا الوطن، لن يأتيَ لنا بالعدالة ممن صنع قارب الموت، وممن أغرقه.

زر الذهاب إلى الأعلى