بائع الأوهام والشعار ينطح الشعار

مؤثرة جداً استفاقة عدد كبير من الفنانين والإعلاميين والمتعاطين بالشأن العام الذين داروا لعشرات السنوات في فلك العماد ميشال عون وآمنوا بأنه قائد مشروع إنقاذ. لقد استفاقوا على واقع مر بمفعول رجعي. أحد هؤلاء الإعلامي هشام حداد الذي أطلق على عون صفة بائع الوهم، وأردف في إحدى مقابلاته التلفزيونية، أن ما يحزنه هو أنه ابتلع هذا الغش منذ العام 1988،إذ ليس ما قام به العماد عون من باريس سوى حلقة ثانية من مسلسل بدأ العام 1988، وكان البطل فيه مختبئاً بثياب المخلص، الذي يبحث عن إنقاذ الجمهورية، غير مبالٍ برئاسة الجمهورية.

لقد كان هذا الشعار من الأوائل في باقة الشعارات الكثيفة التي أطلقها الجنرال، لكن وقائع ما بعد العام 2005، كشفت لحداد ولكثيرين مثله، أن الشعار يخفي شبقاً للوصول إلى السلطة، لا تحده أية ضوابط ولا تلزمه ما التزم به مطلقه من تعفف وتعالٍ على المصالح الصغيرة لتحقيق الأهداف الكبيرة.

في نهاية الثمانينات، سلم العماد عون رئاسة الحكومة العسكرية بمهمة وحيدة هي تأمين انتخاب رئيس الجمهورية، ومنع تحول الفراغ إلى واقع دائم، فكان مشروعه انتخاب المرشح الوحيد للرئاسة وإلا السلام على الجمهورية والرئاسة، وعلى هذا الدرب حصلت أحداث مؤلمة وسالت أنهار من الدماء، من معركة ما بعد مؤتمر تونس، التي كانت استدراج عروض للرئاسة، إلى حرب التحرير التي أتت كنتيجة للرفض السوري لوصوله إلى بعبدا، إلى حرب الجيش والقوات التي كانت نتيجة تيقن الجنرال بأن الطائف انطلق بمرشحه الرئاسي وغطائه الدولي والعربي.

لقد قال الجنرال يومها أن اعتراضه على الطائف لم يكن في موضوع الصلاحيات، بل السيادة، لكن تبين أن حربه فيما بعد في وجه القوات اللبنانية كانت تتغذى بالقذائف السورية وبمازوت الدبابات الذي كان يعبر آمناً، إثر ايفاده مندوبيه لمقابلة غازي كنعان في عنجر إياها التي يتهم خصومه اليوم بأنهم كانوا من زوارها.

لا يسقط من الذاكرة أن الجنرال قبل باتفاق الطائف ووقع وثيقة ممضية في حواره مع ألبير منصور، وأنه اليوم يحكم باسم الطائف، فقد قبل به بعد أن أصبح الرئيس.

“أكبر من أن يبلع أصغر من أن يقسم” شعار آخر شهير من شعارات الجنرال، التي استعملها كأغنية جميلة، ورماها متجهاً إلى اتفاق مع الحزب، وضع فيه السيادة جانباً واحتقر أبو الزلف. فصاحب الشعار التوحيدي السيادي عاد من باريس باتفاق مع النظام السوري، تجاهل فيه كل شعاراته ووصل التجاهل إلى طي صفحة مفقودي ومخطوفي 13 تشرين، الذين صدقوا وسال دمهم في معركة، ما لبث قائدها أن طواها في الدرج.

إذا كانت مرحلة الثمانينات غنية بإصدار الشعارات، فإن مرحلة العودة من باريس نافستها بقوة. عاد الجنرال بشعار حقوق المسيحيين، فكان هذا الشعار غطاء لدخوله عضواً أصيلاً في نادي المنظومة الحاكمة. كان حلمه أن يكون نبيه بري آخر، فتفوق على بري، وإذا بشعار الحقوق يترجم بأكبر حصة في التعيينات ووزارات الدسم والتلزيمات والبواخر والسدود والاتصالات وصولاً إلى نواطير الأحراش.

وبعد أن التزم قبل العام 2009 بمنع توزير الراسبين ها هو يكرس صهره الوزير الدائم، ويكرس أفراداً من العائلة وزراء ونواب، كل ذلك في خدمة شعار محاربة الإقطاع.

قد تحصي من وراء الجنرال شعارات كثيرة لكن البعض منها يجب نخليده بلوحة على نهر الكلب، فما أن يؤدي الشعار الغرض منه حتى يلقى في سلة المهملات. هكذا عومل الشعار المسكين “الإبراء المستحيل” بعد الاتفاق مع سعد الحريري، وهكذا تحول شعار الرئيس القوي إلى نكتة غليظة، محاها شعار جديد ابتكر على عجل يدعى “ما خلونا”، وهكذا سيكون مصير الشعارات المزمع إنتاجها في وقت قريب.

أن تغطي صناعة الوهم بشعار يحفظه الناس كالزجل، فهذا أسلوب يمكن استعماله على سبيل الاستثناء، أما أن تقفز في رحلتك السياسية الخاوية من شعار إلى شعار، فهذا إرث عظيم لن يكتب عنه التاريخ بكثير من الرأفة.

زر الذهاب إلى الأعلى