“الجاني أولاً”

إنعاشاً للذاكرة، وتذكيراً بحقبات تاريخ ليس ببعيد، فإن منظمة التحرير الفلسطينية التي تحكّمت برقاب الشعب اللبناني لسنوات طوال، واستجرّت اجتياحاً اسرائيلياً للبنان، انتهى بها الأمر إلى الخروج من لبنان بشكل مُهين، بحيث ترك عناصرها عتادهم وأسلحتهم ونزعوا عنهم لباسهم العسكري وفرّوا هرباً في كل الإتجاهات، وفي مقدّمتهم زعيمهم ياسر عرفات الذي غادر لبنان بحراً…

بعد منظمة التحرير، انسحبت إسرائيل من الأراضي اللبنانية تطبيقاً للقرار الدولي رقم ٤٢٥، وهي التي وصلت إلى بيروت وكانت أول عاصمة عربية تحتلّها إسرائيل، وقد بقي جيشها في الجنوب لما يعادل ربع قرنٍ من الزمن طمعاً بمياه الليطاني والوزّاني وغيرهما من الثروات، إلا أن التاريخ عاد وصحّح المسار وخرجت إسرائيل خالية الوفاض، وبقي الجنوب لأهله والمياه لأصحابها…

كذلك جيش النظام السوري، الذي بقي في لبنان لثلاثة عقود، ارتكب خلالها المجازر والاغتيالات والاعتقال والتنكيل والتفجير، تدخّل في تعيين أصغر المسؤولين في مؤسسات الدولة اللبنانية وصولاً إلى فرض رؤساء لها ووزراء ونواب، ومنهم مَن لم يكن يحلم أن يكون ناطور بناء، وعلى الرغم من القبضة الحديدية والأمنية، والبطش الذي مارسه اعتى نظام أمني في الشرق الأوسط، وربما في العالم، اضطر جيش الأسد إلى الإنسحاب هرباً من لبنان تحت وطأة ثورة الأرز وغضب اللبنانيين الأحرار…

لذا، وبعد عرض النماذج أعلاه، يظهر جليّاً كيف أن كل الطارئين على لبنان اندحروا وجرّوا خلفهم ذيول الخيبة، وهكذا سينتهي الإحتلال الإيراني للبنان كما انتهى أسلافه، إنما المفارقة أن الإحتلالات الآنفة الذكر كان أصحابها غرباء ولا يربطهم بهذه الأرض ولا بهذا الشعب رابط، فيما أصحاب الإحتلال الحالي، هم للأسف، يحملون الهوية اللبنانية وليسوا بلبنانيين، كذلك حلفائهم ينحدرون من أصول مسيحية إنما ليسوا بمسيحيين، سواء أكانوا من جبل لبنان أم من زغرتا والبترون، لا فرق، وهنا الأسف والأسى، وهنا يكمن البيت القصيد، بحيث يستغل البعض هذه “السطوة” المنتفخة، محاولين الإقتصاص من خصمهم السياسي على أبواب الإنتخابات النيابية، علّهم يتفوّقون عليه ويخرجونه من حلبة التنافس عبر قضاء مطواع وجائر، بعدما فقدوا الأمل بإخراجه عبر صناديق الإقتراع، وقد فاق خَيَالهم ما كان يقوم به أسيادهم في زمن الوصاية…

فاطمئنوا، يا أبناء الغرف السوداء، فلن تنجحوا لا بهذه ولا بتلك، لأننا نعتبر القضاء سلطة لفرض القانون بالتساوي وليس للتشفّي عبر قضاة جعلوا من أنفسهم أدوات تحرّكها عقول نتنة… ولأنه كذلك، فإن “الحكيم” لن يحضر قبل حضور المرتكب والمحرّض، ولو نَبَتَ العشب والريش فوق رؤوسكم، وظهرت لكم أجنحة الملائكة فوق أكتافكم…

باختصار، لا تُتعبوا أنفسكم، ولا تُسخّروا مطرقة القضاء أكثر مما سخّرتموها، لأن “الحكيم” الذي يُمثّل كافة السياديين والأحرار لن يحضر، ما لم يحضر “الجاني” الذي يمثّل المرتكبين والقتلة…

نعم، “الجاني” أولاً، والبقية تأتي… والسلام.

زر الذهاب إلى الأعلى