تدقيق في حسابات الدولة على “ضوّ التلفون”

لن تُبقي الأزمة من «الدولة» شيئاً. تستفحل فيتزايد الانهيار الكامل لمؤسسات الدولة وأجهزتها المدنيّة والعسكرية. وفيما يجري ترقيع أحوال قصور العدل بعد اعتكافٍ قضائي هو الأطول، تخرج صرخة من ديوان المحاسبة حيث يتجاوز الشغور الوظيفي النصف. أما التدقيق في حسابات الدولة فعلى «ضوّ التلفون»، واستمراريته غير محسومة.

هكذا يُوضع على المحك عمل الجهاز الرقابي المسؤول عن مراقبة تنفيذ الموازنة وإدارة الأموال العامة والتدقيق في حسابات الدولة ومؤسساتها و55 بلدية. حال الديوان من حال مؤسسات الدولة عامةً، وهي في الأصل مهترئة يختلط فيها السياسي بالطائفي بالمحسوبيات والرشوة، إلا أن ذلك لا يعني أنها لم تكن تقوم بأيّ جُهدٍ أو لم يكن فيها كوادر بشرية مؤهّلة لقيادتها قبل أن تستنزف الأزمة خبراتها.

في ديوان المحاسبة اليوم 115 مركزاً شاغراً، ويتولى تسيير الأعمال 112 موظفاً في الملاك من أصل 227 لحظهم قانون إنشاء الديوان. ويقتصر العمل في الغرفة الرابعة المولجة بالتدقيق في حسابات الدولة كافة على 8 مدققين فقط، فيما يضمّ الديوان 19 مدققاً من أصل 50 ينجزون ما تيسّر من مهام.

في التحديات اللوجستيّة أيضاً، غياب الطاقة، فحين تنفد مادة المازوت من مولّد ديوان المحاسبة، تُدقّق حسابات الدولة على «ضوّ التلفون» في الغرفة الرابعة، في انتظار نجاح الجهود لتأمين كميات جديدة من المازوت تقدّمها جهة داخلية بالمجان كمساعدة. جولة في مكاتب الديوان وأروقته تجسّد صورة الإدارة المنهارة، حيث تتحكّم أربعة عناصر بالعمل والإنتاج: مدة تشغيل المولدات ربطاً بكميات المازوت المتوفرة، قبل أن تسود الظلمة حتى في ساعات النهار، توفّر القرطاسية من أقلام وأوراق (وهذه يقدّمها متبرّعون)، مدى تعاون أصحاب المطابع مع الديوان، إذ إن التقارير الصادرة عنه في الفترة الأخيرة طُبِعَت بالمجان تحت مسمّى «تقدِمَة». وأخيراً، أتى الإضراب المستمر لموظفي الإدارة العامة احتجاجاً على فقدان الرواتب قيمتها الشرائيّة مقابل ارتفاع مستمرّ في كلفة النقل لينعكس على انتظام العمل، بعدما فقد الموظفون القدرة على تحمل كلفة الوصول إلى مكاتبهم، ليداوموا راهناً يومين فقط في الأسبوع.

نسبة الشغور 50% والمازوت يتحكّم بساعات العمل والقرطاسيّة يقدّمها متبرعون

واقع انعكس صعوبة في التدقيق في حسابات المؤسسات العامة، يضاف إليها 55 بلدية تخضع لرقابة الديوان المسبقة. ويتمحور العمل حالياً على دراسة الحسابات العائدة إلى الأعوام العشرين التي أودعتها وزارة المالية لديه (1997 – 2017)، وهو انتهى من حسابات أربعة أعوام من 1997 حتى 2000 ضمناً. كما أصدر قطع حساب للأعوام 2017، 2018 و2019. وأصدر تقارير خاصة طال آخرها قطاع الاتصالات حيث وثّق عشر سنوات من الهدر. ويلفت معنيون في الديوان إلى أن «وزارة المالية تتخلّف عن إيداع الديوان حسابات عامين 2020 و2021 منذ ما يزيد على سنتين، لتدقيقها ومن ثم إصدار قطع الحساب بشأنها». وما إقرار المجلس النيابي موازنة عام 2022 قبل التصديق على قطع حساب عام 2021 إلا مخالفة دستورية تضاف إلى مخالفاته المتراكمة أساساً. وذريعة «المالية» وفق المعنيين في الديوان «الإضراب المستمر للموظفين، وحال العمل في الإدارة بشكلٍ عام».

هذا الاختلال في تلبية خدمات العموم يضع مؤسسات الدولة أمام خيارين لا ثالث لهما: الشلل التام أو العمل بالحد الأدنى على ما يتيسّر من مساعدات. وفي نقاش تأثير الأزمة في سياق إعادة شرعية السلطة العامة والتحديات المتصلة بها، ثمة فكرة تشير إلى أن تفادي الوصول إلى انهيار المؤسسات العامة بشكلٍ كامل يحتاج إلى تأمين مصادر تمويل، إذ لا يفترض أن يحل دعم الجهات الداخلية أو المانحة الدولية مكان عمل الدولة. وتجدر الاشارة هنا إلى استطلاع أعدّه معهد باسل فليحان، قبل عام، أظهِر أنّ 41.5% من المؤسسات العامة كانت عاجزة عن التكيف مع الأزمة، وأن 62% من المديرين العامين أشاروا إلى أن فقدان الحافز وانخفاض مستوى الأداء هما تحدّيان رئيسيّان في وجه التغيير وتطوير القطاع العام. والمشكلة الأبرز التي تواجه القطاع أن السلطة السياسية امتنعت عن تصحيح أجور موظفيها ودفعتهم نحو الهجرة. وتبيّن أن 54% من المؤسّسات العامة عانت من خفض في موازناتها تراوحت بين 10% و20% عام 2021، وتمكنّت 17% فقط من المؤسّسات من تعديل خطط عملها بما يتناسب مع تعقيدات الوضع الراهن، ووضع بدائل تهدف إلى ضمان الحد الأدنى من الأداء.

زر الذهاب إلى الأعلى