“من بيت الطين إلى عنّايا” لعمر سعيد…خلاص بلا تبشير

الرواية على قصرها غنيّة بأحداثها وتصوير الوقائع وتبيان التغييرات

قد لا يكون عنوان رواية عمر سعيد “من بيت الطين إلى عنّايا”[1] جاذباً لِمَن لا تستهويه المواعظ الدينيّة والأخلاقية المُتكاثرة كالفطر في هذه الأيّام. ذاك أنّ هذا العنوان قد يشي، عبر اسم المكان “عنّايا” وهي البلدة حيث دير القدّيس شربل، والمزار حيث يُسجّى جثمانه، بأنّ الكاتب سيُغرقنا في أخبار المعجزات والعجائب الخارقة التي حدثت معه وقادته، هو المسلم، إلى الإيمان بالمسيح وبمار شربل، وسيلاحقنا بالمواعظ الرائجة بقوّة اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي التي تحوّلت صفحات مفتوحة لكلِّ غَثٍّ من الطروحات التبشيريّة.
لكن لا شيء هنا من ذلك كله!

بدأ عمر سعيد روايته هذه، بحدثٍ من مرحلة متأخّرة في حياته، يوم كان يدرس ويعمل في العراق، حيث تراءى له ذات ليلة شيخٌ، كأنّما في حلمٍ أو “رؤيا”، نزع السِّلاح من كفّه (…) ودعاه قائلاً: “عُدْ إلى الحياة”. هي دعوة بدت حضّاً على نبذ الحقد والكراهية والعنف. ومن هذه النقطة يعود بنا إلى حياته ونشأته في بيئته المحلّية، بلدة الصويري في لبنان، حيث تربّى على العادات والتقاليد الموروثة التي كوّنت شخصيّته بجانبَيْها السلبيّ والإيجابيّ، قبل أن يدخل زمن حروب التحرير “الموهومة” في وجه العدو الإسرائيليّ الذي دُشِّن مع بداية ظهور الميليشيات على الأرض، لتنتشر في الأرجاء وتفرض شيئاً فشيئاً فكرها ونظامها وقوانينها وسيطرتها على كلّ ما حولها، وطبعاً المليشيات بكلّ انتماءاتها وتشكّلاتها من ستينات القرن الماضي وصولاً إلى زمن المليشيات الدينيّة التي فرضت في النهاية شريعتها وتحريماتها وتكفيراتها.

تبدو أحداث الرواية محصورة في زمنٍ محدّد كما يبدو من الوقائع التاريخيّة المسرودة، وهي الفترة الممتدّة من أواخر ستّينات القرن الماضي، مع بداية نزول المليشيات بأرضهم، إن لم نقل احتلالها، إلى زمننا المتأخّر هذا. لكن الكاتب لم يلتزم خطّاً روائيّاً مستقيماً واحداً، بل هو تلاعب بالزمن الروائيّ، عبر الاستعادات والاستباقات، فسرد الأحداث عنده يبدأ، كما ذكرنا، من مرحلة متأخّرة قبل أن يعود بنا إلى الوقائع التاريخيّة في زمن حدوثها، ليعرضها بتسلسلها الواقعي. بهذه الطريقة من المعالجة، وعبر سرد الأحداث المتداخلة، أمكن الكاتب أن يصوّر لنا الحالة النفسيّة التي يعيشها بطله (وهو الروائيّ- الراوي)، عبر تصوير تراكم الأحداث الضاغطة عليه في ذاكرته أو عبر خوفه ممّا يمكن أن يخبّئه له المستقبل وسط المستجدّات التي فرضت نفسها على بيئته.

وإن كانت الرواية تحكي قصّة صاحبها عمر سعيد بذاته، إلا أنّ عمر سعيد، الراوي في الرواية، يتحوّل الشخصيّة الرئيسة، أي بطل روايته، ومن هذه الزاوية يجب أن ننظر إليها، وإلا فقدت الرواية قيمتها الفنّية وتحوّلت مجرّد مدوّنات شخصيّة، ومذكّرات تقريريّة تؤرِّخ وحسب لمرحلة محدَّدة في منطقة محدّدة. فاعتماد ضمير المتكلّم، الأنا، حوّل الراوي شاهداً حيّاً على حقبة معروفة، وأضفى على الحكاية مصداقيّةً، كونها صادرة عن شخص عاش وعايش الأحداث بنفسه. فإذا عمر سعيد “الروائيّ” ينقل الوقائع، ويحلّل النفسيّات، ويبني الشخصيات، ويشدّ الرواية في بنية فنّية متماسكة حول شخصيّته، أي حول “الراوي” بطل قصّته الذي يمكن أن يكون أي شخصٍ آخر غيره.

والراوي هنا كأي لبنانيّ آخر، وربّما نقول اليوم كأي إنسانٍ آخر، عربيّ أو غربيّ، عاش مقدّمات الحرب التي نشبت رسميّاً في العام 1975، مع ظهور المليشيات المسلّحة والتنظيمات (الفلسطينيّة وغيرها) على أرض الجنوب لمحاربة العدو الإسرائيلي في الأساس. ثمّ ما أعقب هذه الحرب من حروب عبثيّة، لم يكن منها سوى الخراب.

في فصولٍ موجزة وخاطفة، تنمّ عن تسارع التغيُّرات التي بدأت تحدث في قريته ومحيطها يروي سعيد التحوّلات التي أحدثها وصول المسلحين وانتشارهم، وبداية نشر آرائهم وعقائدهم، وفرض أنواع السلوك الديني المتزمّت، والنضالي المفترَض، والتعصبيّ اللازم لاصطناع عدو، هو في الحقيقة غير العدو الإسرائيليّ. بات عدوهم جارهم المسيحيّ بإيمانه وكنائسه وسلوكه وعلاقاتهم به، حتى صار كل همّ الشباب مثله محاربة هذا العدو الطارئ والسعي إلى القضاء عليه، في مدينة زحلة المجاورة وفي كلّ مكان. وهذا ما يتناقض عمليّاً مع حالة التعايش والتقارب التي كانوا يعيشونها من قبل مع أبناء محيطهم، ومن التفاعل الإيجابي بين المعتقدات. فوالدة الراوي علقت في رقبته، هو المسلم، سلسلة بصليب سيلازمه طيلة حياته. ويوم سرق كتاب الإنجيل وراح يقرأ فيه، لم يمنعه أبوه من ذلك، لكنّه عاد وأخذه منه ووضعه قرب المصحف الشريف، ليس خوفاً على إيمانه المسلم، بل كيلا يُتّهموا بالكفر. ناهيك من وحدة الحال مع أبناء مجتمعهم النصارى الذين يشاركونهم عاداتهم وتقاليدهم في الأعياد، شجرة الميلاد والبيض الملوّن يوم الفصح. ولا غرابة بعدها أن نكتشف أنّ أخاه البكر يحمل اسماً مسيحيّاً “إلياس”.

الرواية على قصرها غنيّة بأحداثها وتصوير الوقائع وتبيان التغييرات التي طرأت على المجتمع والأفراد. أّوْلى فيها الكاتب حيِّزاً مهمّا لدور الأب في تربية الأولاد بالطريقة التقليديّة، القاسية والوحشيّة إلى حدّ بعيد، وما ذلك إلا خوفاً عليهم من الانحراف أو الفساد، ومن الانزلاق، في تلك الظروف إلى حمل السلاح والانقياد للمليشيات. وستظلّ صورة الأب القاسي، كما صورة الأم العطوف، ملازمة للراوي حتى المراحل المتقدّمة من عمره، من دون أن يحمل ضدّه أي حقدٍ أو كراهية.

ونجدّ أنفسنا هنا، مع الكاتب- الراوي، إزاء نوعين من التربية أو المسلكيّة. التربية البيتيّة التقليديّة، والتربية أو “صناعة” الشخصيّة المليشويّة الطارئة. لقد جرّب الكاتب، وأبناء القرية والجوار، السلاح والانضواء في الميليشيات، وتعلّم القتال، لكّنه في النهاية تخلّى عن ذلك كله ساعياً إلى إتمام علمه، خصوصا أنّه حصل على منحة لمتابعة دراسته في العراق أيّام صدام حسين.

لقد استخلص نتائج التجربة مبكّراً، فالسلاح الموزّع والمنتشِر أساساً لمحاربة العدو الإسرائيلي، تحوّل أداة تقاتل داخليّ، ليس مع أبناء الطوائف الأخرى وحسب، بل بين أبناء البيئة الواحدة التي سقط فيها من القتلى أكثر ممّا سقط مع العدو الإسرائيليّ. وهو ما جعله يكتشف ويصوّر هنا عبثيّة هذه الحروب التحريريّة ومجّانيتها في صور وتلميحات تعبيريّة ساخرة وذات دلالات مهمّة، أهمّها تكراره عبارة “تحرير فلسطين” كلّما ذكر حادثة ما أو وصف الأوضاع وسياسات الميليشيات، وأكثرها تعبيراً هو هذه الفقرة في وصف مدرستهم في القرية، وتبيان التناقض بين حالة التخلّف الرهيبة والنضال في سبيل التحرير:

“كنّا نحتاج ساعة دراسيّة كاملة لأجل قضاء الحاجة، إذ كانت مراحيضنا نحن الأطفال في الخلاء خارج حدود القرية، فقد كانت مدارس قريتنا كلها بلا مراحيض، وعلى الرغم من ذلك كنّا نهتف في طوابيرها الصباحية لأجل تحرير فلسطين”.

“تحرير فلسطين” تتكرّر تباعاً بشكلٍ تهكّمي، وسخريةٍ مرّة، لأفعال بسيطة تافهة أو لا تمتّ بصِلة لأي تحرير. “كنّا كلّما انطلقنا إلى تحرير فلسطين واجهتنا مشاكل جديدة فنؤجّل الأمر إلى حين حلّها”. وأخطر تلك المشاكل طبعاً كانت عملية منعهم من تنفيذ مهامهم على أيدي القوات السوريّة المتواجدة في المنطقة وذلك بتهمة الحلول محلّ الدولة وتعريض الأمن القومي للخطر، مع ما يستتبع ذلك من عقوبات وتداعيات. لكنّه بشكلٍ ساخر من التحريمات والسلوكيات الدينيّة يسلّط الضوء على نوع آخر من الموانع. “فقد تبيّن له” أن فستان أخته القصير، ورأسها الحاسر والتدخين في الأعراس والمآتم وشرب الخمر ومصادقة النصارى والأموال في المصارف، كلّها “من الأشياء التي تتسبّب بهزيمتنا”، وتسد عليهم كلّ الدروب الموصلة إلى القدس. ولكَم هو ساخر ومعبّر عندما يروي كيف أنّ الميليشيا في طريقها إلى القدس وصلت إلى ساحة القرية حيث استقرت في مركزٍ وحاجزٍ ثابتين لها.

كل هذه المستجدّات فتحت أمام الراوي باب النظر في أحوال مجتمعه وأوضاعه ما قبل زمن التحرير وفي أثنائه. هذا المجتمع القائم بشكل عام على التكاذب والممالأة، وعلى خوض المعارك الداخليّة “بالطناجر والصحون المعدنية” كخوذات على رؤوسهم (من المشاهد الساخرة المضحكة)، وبالعصي والحجارة، تدوم معاركهم ساعات قبل أن يعودوا إلى التلاقي والصلاة جنباً إلى جنبٍ في المسجد. هم الذين توهموا كلّ الشرور في “الحب والثراء والنجاح…”. وهم الذي توارثوا الانتماء السياسي والولاءات. أوهام وخرافات ومعتقدات كثيرة، لم يجد البطل نفسه في أيّ منها. ولذلك عاش حالة من الضياع حتى في هجرته إلى العراق وإلى الخليج. وربّمالأنّه لم ينتمِ واجهته الأنظمة بعسفها وظلاماتها، فخضع للتحقيقات والشكوك في العراق، وتعرّض للسخرية والإهانة وَلَداً في حقول بلدته على يد القوات السوريّة، التي عادت واعتقلته وعذّبته وسجنته بعد عودته من العراق. وفي سجنه هذا عاد والتقى ذلك النور، أو ذلك الشيخ الذي دعاه إلى “العودة إلى الحياة”. وفيه على ما يبدو تراءى له القديس شربل…

وفي النهاية عندما يحاول الهروب ومغادرة البلاد في زمن الحروب، تُسدّ في وجهه السبل، فيَتيه ويجوع إلى أن يأويه أحد أصدقائه المسيحيّين، وفي ضيقه وعذابه يجد نفسه متوجّهاً إلى عنّايا طلباً للسكينة والهدوء، حيث يقيم صلاته الإسلاميّة لأنّه لا يعرف غيرها، وليشعر في النهاية أنّ حياته تغيّرت وأنّ أمامه طريق خلاص.

طريق خلاص على طريقته وبمفهومه. فالوصول إلى عنّايا، المكان المقدّس عند المسيحيّين، لم يُحدِث، أو لا يعني، تحوّلاً أو انتقالاً من هذا الدين المعروف إلى دينٍ معروف آخر، “هناك في عنّايا اكتشفت أنّ الله فيها هو الله الذي عرفته في بيت الطين”. فهو (الطريق) قبل كلّ شيء سعيٌ إلى الأمان النفسيّ قبل الجسديّ، ومنه يتولَّد إيمانٌ جديد بالانسان كإنسان، خليط من كلّ الأديان، بعيداً من المفاهيم والمعتقدات الموروثة هنا وهناك. في الطريق إليها عانى، واكتشف وسامح كثيراً، لكنّه في النهاية أحبّ كثيراً “في الطريق إليها أحببتُ واحببتُ وأحببت”.

تميّز أسلوب الرواية بالكثير من البساطة في التعبير، عبر جمل مقتضبة وفصولٍ قصيرة، وعبرها عرف الكاتب كيف يجمع بين السرد الإخباريّ والتحليل الاجتماعيّ والوصف النفسيّ الذاتيّ، وبالتأكيد ساعده تخصّصه المسرحيّ وخبرته في هذا المجال على هذه السخرية السوداء في تعابير وتصاوير موحية وصادقة جارحة في آنٍ معاً.

من بيت الطين إلى عنّايا رواية الصدق والجرأة في تحديد الأمور وتسمية الأشياء بأسمائها، وفيها عرف عمر سعيد كيف يحوّل، في فصولٍ قصيرة غير مُدَّعية، الأسلوب التقريريّ الوصفيّ إلى أسلوب فنّي روائيّ يعكس نظرة ثاقبة وعمقاً إنسانيّاً في تصوير مجتمعاتنا الشرقية على واقعها المتخلّف.

[1]. عمر سعيد، من بيت الطين إلى عنّايا، دار سائر المشرق، بيروت، 2023، 160 صفحة.

زر الذهاب إلى الأعلى