أنا لست بشهيد: بقلم الروائي عمر سعيد

بالطبع أنا لست بشهيد، غير أني كاتب، يعرف كيف يدلف في قبور الشّهداء.

أعرف كيف أحتضن الشّهيد في صمته، وأصغي إليه، فأسمع ما ودّ لو أنّه قاله قبل الرّحيل، لأمه، لأبيه، لحبيبة، لبنيه، لصديقه والرّفاق.

ولأنّي كاتب، أعرف كيف أكون الدّماء على ثقوب جسده الممزق حبًا، وكيف أسيل حمرة في ذاكرة المودّعين إلى أن ينتهي لّيل تعمّم بالسّواد.

وأعرف كيف أكون الشّهيد نفسه، فأستيقظ من رقادي، لأرتق تشقّقات جلدي الّتي أحدثتها فيه الحياة، وأعرف كيف أرتدي بزّة لازمتني حتّى السّقوط، لأحضر في أحلام من أحبّهم بكامل أناقتي أملًا يشدّ على أوجاع السّائرين إلى الصّباح.

ولأنّي كاتب، أعرف كيف أكون أمًّا تمشّط في نومها شعر صغير لن يعود، وكيف أكون دمعة، أسحّها على حدّ النّحيب.

وأعرف كيف أكون أبًا يسدّ شقوق روحه بأحجار من ملح الطّريق.

وأعرف كيف أكون ابنا يرفض أن يكبر في غياب والده الشّهيد.

وأعرف كيف أكون ابنة تنتظر عند مدخل الغروب احتضان طيف يستعذب البكاء.

ولأنّي كاتب أعرف كيف أكون نشيد حزن وحرب ونصر وهزائم، وأعرف كيف أردم حُفَر الطّريق تحت عجلات عربات موت تقل الجند والشّهيد.

ولأنّي كاتب أعرف كيف أكون الصّلاة، وصدى أجرس الكنائس، والصّمت والعويل والبكاء، وكيف أكون زهرّا على أضرحة الشّهداء.

لكنّني لا أعرف كيف أكون صورة، تعلّق إلى عمود، تنال من ألوانها أتربة الرّصيف، وبقايا دخان المزابل، وأوراق مطابع الدولار المزور، فتسدّ دروبًا وسماء على من عشقوا الحياة.

فأعظم الشّهداء أولئك الّذين صنعنا بوجوههم مستقبل الأحياء، وفرشنا بترابهم حدائق النّساء، وأقمنا عند قبورهم مشاعل مجد تضيء ليلًا يكافح البكاء.

زر الذهاب إلى الأعلى