ماذا لو هَرَبَ سمير جعجع في 21 نيسان 1994؟

21 نيسان 1994 تاريخ طبع المقاومة اللبنانيّة كلحظة 14 أيلول 1982. فالتاريخان هدفهما واحد وهو اغتيال قائد المقاومة اللبنانيّة على قاعدة “اضرب الراعي فتتبدّد الخراف”. نجحت يد الغدر في العام 1982 باغتيال قائد المقاومة اللبنانيّة فخامة الرئيس الشهيد الشيخ بشير الجميّل، فتبدّدت الخراف وضاعت المقاومة اللبنانيّة حتّى وصول سمير جعجع الذي أخذ زمام المبادرة من دير القطّارة وصار هو هو كما عرفه لبنان واللبنانيّين القائد المقدام الذي أخذ على عاتقه مأسسة المقاومة اللبنانيّة في حزب القوّات اللبنانيّة وبناء مؤسّسات تضمن الحدّ الأدنى من وجود الدّولة لإيمانه المطلق بعدم قدرة أيّ حزب أو فريق سياسي على الحلول مكان الدّولة.

أمّا تاريخ 21 نيسان 1994، فأرادته سلطة الاحتلال والنّظام الأمني تاريخًا لاغتيال سمير جعجع، إن لم تستطع بالجسد فمعنويًّا حتّى الانقضاض على المقاومة اللبنانيّة التي كانت الشوكة في خاصرة الاحتلال السوري آنذاك. لكن ما لم يكن في الحسبان هو بقاء سمير جعجع على قيد الحياة. هذه السلطة التي كانت تتصرّف آنذاك بحسب تقديرات إمكانيّة هرب سمير جعجع لم تكن تدرك حقيقة هذا الرّجل.

خافوه فحاولوا إبعاده بالضغط عليه من خلال رسائل حملها إليه رؤساء ووزراء وشخصيّات معروفة الولاء في تلك المرحلة للطلب منه بأن يرحل. فكان جوابه الدّائم: “مَن يخرج من الجغرافيا يخرج من التّاريخ”. اعتبر جعجع بقاءه في لبنان في تلك المرحلة، إنّما هو حالة من حالات المقاومة التي كان يخوضها على جبهات بلّا وقنات وبشرّي وصولاً إلى جبال صنين وتلال زحلة، والجبل الأشمّ، وشرق صيدا، وتخوم الأشرفيّة وخطوط النّار في عين الرّمانة قلعة الصمود. من هنا كان قرار البقاء.

وما بقي جعجع إلا لأنّه أدرك تمامًا عقل المحتلّ السوري والعميل اللبناني الذي رضخ وباع لبنان بثلاثين آنذاك. فالاضطهاد الذي تعرّض له شباب القوّات اللبنانيّة في المرحلة الممتدّة بين العامين 1994 و2005 لا يساوي شيئًا مع الاضطهاد الذي كانوا سيتعرّضون له في ما لو جعجع هرَبَ ونفدَ بنفسِهِ فقط كما فعل غيره وتركَ عسكرَه يموت على الجبهات. فبأقلّ تعديل ما كان سينتظر شباب القوّات هو الموت. وإن لم ينتظرهم هذا الوشاح الأسود فكانت الشماتة هي مَن سينتظرهم. وعلى حدّ قول السيدة فيروز في مسرحيّة “جبال الصوان”: “الشماتة أصعب من الموت”.

فباختيار جعجع المعتقل نجّى القوّاتيّين الذين صمدوا من الموت، والأهمّ أنّه لم يجلب الشماتة لهم بل بقوا مرفوعي الرأس وواجهوا المحتلّ ونظامه الأمني بصدور عارية. هكذا كنّا نرتاد جامعاتنا ونواجههم جميعهم ونقول لهم: “لنا قائد ساوى نفسه بأنفسنا ودخل المعتقل فداء لنا”. بينما كنّا ننظر في عيون غيرنا فنراهم يموتون كلّ لحظة خجلاً بعدما تركهم قادتهم ورحلوا ليستمتعوا في القصور الباريسيّة، أو حتّى بعضهم مَن وضع يده بيد المحتلّ السوري ليمنّ عليه بكرسيّ ذمّيٍّ من هنا، أو بمركزٍ في الدّولة من هناك. وكنّا نسير بين هؤلاء كلّهم برؤوس مرفوعة، نكشّح الغيوم بجباهنا، ونجاور الأرز كلمّا ارتفعنا.

نجح سمير جعجع بنزع الخوف من قلوبنا ببقائه، كما نجح بأن ينقل المشعل مضاءً لنا نحن الجيل الذي لم نعرفه في زمن الحرب مقاتلاً فعرّفنا عن نفسه مقاومًا صامدًا في صومعته النّسكيّة التي اختارها بملء إرادته. وعلّمنا بأنّ الانسان هو سيّد نفسه ويستطيع أن يصنع مستقبله بقرار في لحظة مصيريّة يكون فيها حيث لم يجرؤ الآخرون أن يكونوا. لا أن يستسلم لقدرٍ فُرِضَ عليهِ لأنّنا لسنا قدريّين بل ولدنا أحراراً من أرحام أمّهاتنا وهكذا نموت كالأرز واقفين.

هذا هو سمير جعجع الذي عرفناه. ومَن لم يعرفْهُ بعدُ على هذه الحقيقة فهو قابع في غياهب التّاريخ الأسود الذي نجح الهاربون بإعلامهم الغوبلزيّ المبني على قاعدة “اكذب اكذب اكذب” بزرع صورة نمطيّة له في رؤوسهم ترتبط بأفلام الحرب التي تربّوا عليها، وزرعوا الحقد في قلوبهم وأثمر إنكارًا في أجيال اليوم التي إن اكتشفت حقيقة سمير جعجع لا تجرؤ على البوح بها فتموت خجلاً في أوجار حقدها. لهؤلاء كلّهم نصلّي ونسأل لهم نعمة الشفاء من مرضهم. هل عرفتم لماذا لم يهرب سمير جعجع؟

زر الذهاب إلى الأعلى