
“ما من حبّ أعظم”… الكنائس الكاثوليكية تُحيي ذكرى خميس الأسرار وسط إقبال كثيف
“اغسلني كثيراً من إثمي ومن خطيئتي طهرّني”. في لحظات الضعف والألم يركض المرء إلى حضن الأب السماويّ، فمن أحنّ منه علينا وأكثر منه تستّراً على خطايانا؟ وهنا تماماً ميزة عيد الفصح بمراحله كافة، إذ نتعلّم منه كيف نحبّ، نسامح، نتوب ونعود إلى جوفنا لنكتشف معنى الحياة بتجرّد بعيداً عن السلطوية والتبعية المالية والشهوانيّة.
في سرّ القربان المقدّس تكمن أكبر العجائب والمعجزات، فإنّه تحت شكلي الخبز والخمر، حيث أنّ يسوع الحبّ بكليته، بجسده ودمه، حاضر بيننا، واليوم بشكل خاصّ أكثر من أيّ يوم آخر يؤكّد لنا يسوع المسيح أنّه بكامل قدسيّته وتواضعه نزل حتّى أقدام التلامذة والخطأة ليُباركهم ويُعلّمهم أنّ التواضع من شيم الإنسان المؤمن والملتزم، وأنّ التكبّر ليس إلّا خطيئة تُبعدنا عن حقيقة الله وقلبه، فما أحوجنا إلى التأمل في هذه الفكرة اليوم خلال زيارة الكنائس السبع لنفهم سرّ يسوع الكليّ القداسة والرسالة التي يُحاول إيصالهم إلينا في لبنان وسط الإنهيارات المتتالية التي نعيشها والتي قرّبتنا نوعاً ما من الكنيسة أكثر من السابق لاسيّما بعد إغلاق دام لسنتين بسبب وباء كوفيد.
فيسوع ومن شدّة حبّه المنطلق من الذات إلى الآخر، قام عن العشاء في مثل هذا اليوم، وقبل أن يرسم تلاميذه كهنة للعهد الجديد، ويؤسّس سرّ الإفخارستيا، ذبيحة جسده ودمه ووليمة الحياة الجديدة، وقبل أن يُنشئ الكنيسة المولودة من هذا السرّ، غسل أرجل تلاميذه ومن بينهم من اقتاده إلى الصلب في إشارة إلى المسامحة والمحبة. ويقول الأب إدمون رزق في حديث لـ”النهار” إنّ “الإنسان عموماً يعود إلى الله في لحظات الحروب والألم حيث تكون النفس ضعيفة ويائسة، وبالتالي يعود إلى ممارسة طقوسه الروحيّة وإحياء المناسبات الدينيّة بشكل روحيّ وأكثر عمقاً وهذا ما نشهده حالياً في لبنان”.
“الله يزيد المؤمنين، مشاهد بتكبّر القلب”، في كلّ سنة تحتفل الكنيسة الكاثوليكية بخميس الأسرار الذي يسبق أعظم يوم في تاريخ المسيحيّة وهو الجمعة العظيمة، حيث بذل يسوع المسيح نفسه في سبيل خلاصنا، وفي هذا اليوم يطوف المؤمنون حول الكنائس طالبين الرجاء والمغفرة استعداداً للوصول إلى اليوم المنتظر… يوم القيامة.
كلّ قداس نحضره ونشارك فيه يذكرنا بيوم خميس الأسرار، يوم تأسيس الإفخارستيا، يوم العشاء السرّي ولقاء يسوع مع نلاميذه قبل الآمه وموتهِ وقيامته تاركاً لنا هذه الأمانة قائلاً: “خذوا فَكُلُوا، هذا هو جَسَدي”… “اشربوا منها كُلُّكم، فهذا هو دمي، دمُ العهد الجديد يُراقُ من أجل جماعةِ الناسِ لِغُفرانِ الخطايا ” (متى ٢٦ : ٢٧-٢٨) “إصنعوا هذا لِذِكري” (لوقا ٢٢: ١٩)… “فَمَن أكلَ خُبْزَ الرّبِّ أو شُرِبَ كأسَه ولَم يَكُنْ أهلاً لهما فقد أذنبَ إلى جسَدِ الرَّبِّ ودَمِه” (قورنتس الاولى ١١: ٢٧).
يتوقّع الأب رزق أن تكون الأعداد حاشدة هذا العام، انطلاقاً من الإقبال الكثيف الذي شهدته الكنائس في أحد الشعانين، موضحاً أنّ “مشاكل كوفيد والتراكمات الأخرى التي تلتها قرّبت مسافتنا مع الله وجعلت التواصل معه مباشرة”، لافتاً إلى أنّه يوجد “عطش” لدى المسيحيين اليوم للمعرفة والإيمان أكثر من السابق”.
ويشرح الأب في سياق حديثه عن أهمية هذا اليوم للمسيحيين، كاشفاً أن غالبية الكنائس أعادت تجسيد رتبة الغسل بعد توقف دام لسنتين بسبب الوباء، لتعود هذه الطقوس المسيحيّة هذا العام إلى سابق عهدها، تمهيداً للاحتفال باليوم الكبير، يوم خلاص البشرية على أيدي الفادي القدّوس.
“طوبى للذين آمنوا ولم يروا”، صحيح أنّ المؤمن ليس بحاجة إلى أعاجيب ليصدّق حقيقة إيمانيّة معيّنة، ولكنّ الرب لا ينسى أن يترك بعض الإشارات تأتي لنجدة ضعفنا البشري، وشكوكها في هذا السر كما توما الذي في كلّ واحدٍ منّا وتذكيراً لكلّ شخصٍ غير مبالٍ بعظمة هذا السرّ العجيب والفائق الإدراك. وفي هذا الإطار، يُشدّد الأب رزق على أنّ “المسيح أتى من أجل كلّ البشر لا سيّما الضعفاء وغير المؤمنين ليحثّهم على الإيمان والرجوع إلى الله، داعياً الجميع إلى الاعتراف بخطاياهم وتقبلّها للبدء بصفحة جديدة مع قيامة سيّدنا وفادينا يسوع المسيح”.